Smiley face Smiley face Smiley face

هل يشتعل مضيق تايوان؟

إبراهيم علوش
دلالة زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي المحتملة إلى تايوان رمزية، ولكنّ ما تدلل عليه من اعترافٍ أميركيٍ باستقلال تايوان هو أمر غير محتمل بالنسبة إلى الصين.

ما إن تداولت وسائل الإعلام أنباء عن زيارة مزمعة لرئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، حتى ردت الصين بتهديدات جدية، ثم أعادت تأكيد تهديداتها، ملوحة بإجراءاتٍ عسكرية، بحسب مصادر وسائل الإعلام الغربية في الأيام الفائتة.

تصاعدَ التوتر عبر مضيق تايوان بين مقاطعة فوجيان على البر الصيني والـ130 إلى الـ220 كم التي تفصلها عن أضيق وأوسع نقطة عن شواطئ جزيرة فرموزا؛ الجزيرة الأكبر في “منطقة تايوان”.

تتألف تلك “المنطقة” من 166 جزيرة يقع معظمها في بحر الصين الجنوبي، بحسب التعريف التايواني الرسمي، أو تتألف تايوان من فرموزا و22 جزيرة أخرى تسيطر عليها حكومة تايوان فعلياً، أو تتألف من جزيرة فرموزا فحسب، كما قد يتبادر إلى المخيال العام.

إن الحديث عن “منطقة تايوان” ووصفها بأنها منطقة بحرية أساساً تتكون من عشرات الجزر الصغيرة والكبيرة قليلاً التي تنتشر في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي مضيق تايوان ذاته، مهمٌ لفهم طبيعة التناقضات الجغرافية – السياسية في بحر الصين الجنوبي التي تسبب احتكاكاتٍ عسكريةً مرشحةً دوماً للتفاقم بين القوات الأميركية والصينية.

وقد صرح رئيس هيئة الأركان الأميركية، الجنرال مارك ميللي، خلال مروره بإندونيسيا الأحد الفائت، بأنَّ الصين باتت “أكثر عدوانيةً وخطورةً”، مشيراً إلى أنَّ عدد اعتراضات القوات البحرية والجوية الصينية (للقوات الأميركية) في المحيط الهادئ ازداد بصورةٍ ملموسةٍ خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وازدادت معه “التفاعلات غير الآمنة بالنسبة ذاتها”.

يقع بحر الصين الجنوبي غربي المحيط الهادئ طبعاً. ومن الواضح أن المحيط الهادئ ربما لا يظل هادئاً لمدة طويلة. والأميركيون الذين يتحدثون عن “عدوانية صينية” لا يكفون عن استفزاز الصين بصورةٍ شبه يومية.

خلال الأسبوع الفائت مثلاً، تنزهت مدمرة أميركية عبر مضيق تايوان المملوء توتراً، بعد أن مرّت قرب جزر “سبراتلي” وجزر “باراسيل”، التي تؤكد الصين سيادتها عليها، في عمق بحر الصين الجنوبي.

كل الاعتذار هنا لاستخدام الأسماء الغربية لتلك الجزر، بدلاً من أسمائها الصينية، للتخفيف على القارئ الكريم، على الرغم من أنَّ استخدام أسماء غير صينية يمهد اصطلاحياً لنزع مشروعية الملكية الصينية عنها، ولكنّ الأسماء الصينية لتلك الجزر غير معروفة عالمياً للأسف.

كما أننا نحاول تقديم ملفٍ دوليٍ للقارئ العربي بات الأكثر ترجيحاً للانفجار بعد ملف أوكرانيا بأبسط تعابير ممكنة، وهي مشكلة لن تبقى قائمةً إلى الأبد عندما ننتقل إلى عالمٍ متعدد الأقطاب ثقافياً وإعلامياً، لا اقتصادياً وسياسياً فحسب.

المهم أنَّ دلالة زيارة بيلوسي المحتملة إلى تايوان رمزية، ولكنّ ما تدلل عليه من اعترافٍ أميركيٍ باستقلال تايوان هو أمر غير محتمل بالنسبة إلى الصين، فالصراع لا يدور على الـ32 ألف كم2 التي تشكل مساحة فرموزا فحسب، ولا على الـ36 كم2 التي تمثلها جزر منطقة تايوان، بل على الممرات البحرية وخطوط التجارة الدولية والمنطقة الاقتصادية الخالصة البالغة أكثر من 82 ألف كم2 التي تزعمها حكومة تايوان لنفسها، وعلى مجموعة جزر في بحر الصين الشرقي، تسيطر عليها اليابان حالياً، وتطالب بها كلٌ من حكومتي تايوان والصين.

باختصار، إذا لم تكن منطقة تايوان جزءاً من الصين، فإن المياه بينها وبين البر الصيني تصبح مياهاً دوليةً، لا إقليمية صينية، وهذا يعني فيما يعنيه:

– أن ممرات بحر الصين الجنوبي التي يمر عبرها 5.3 تريليون دولار من التجارة الدولية كل عام تمثل أكثر من 60% من التجارة الدولية بحرياً، و40% من شحنات النفط عالمياً، و65% من تجارة الصين الخارجية، بحسب تقرير أوروبي في صيف عام 2021، ستصبح تحت رحمة البنتاغون، فيقطعها ويوصلها كيفما يشاء إذا عدّت تلك المياه مياهاً دوليةً.

وقد رأينا ملياً من تجربة العقوبات على روسيا مع شركائها التجاريين الأوروبيين أن مثل هذا الخطر الاستراتيجي واردٌ جداً، ولا بدّ من التحسّب له في استراتيجية الأمن القومي الصيني. ولهذا، تصاعدت حدة الصراع على ممرات بحر الصين الجنوبي بعد أزمة أوكرانيا بالذات.

– أنَّ ثروات بحر الصين الجنوبي، الذي يختزن ما يقارب 11 مليار برميل من النفط، و5.38 تريليون متر مكعب من الغاز، سيصبح للغرب وشركاته حصّة فيها إذا عُدت مياهاً دولية، فيما يحاول الغرب أن يتذرع بحقوق الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، مثل إندونيسيا وماليزيا والفلبين وفيتنام وتايوان، ليحرم الصين منها، ولا سيما بعدما أظهرت أزمة أوكرانيا أهمية الموارد الطبيعية في الصراع بين منظومة الهيمنة الغربية من جهة، ومشروع التعددية القطبية من جهةٍ أخرى.
استقلال تايوان: تهديد مباشر لمبدأ “صين واحدة”

لن ننجرف إلى المنظور الاقتصادوي الصرف في تناول الصراع على منطقة تايوان وبحر الصين الجنوبي، إذ إنَّ ما هو أهم منه هو منظور الأمن القومي. ولا يمكن للصين على هذا الصعيد أن تقبل بمبدأ استقلال جزيرة تايوان، وهي جزيرة مجاورة تقطنها أغلبية ساحقة من قومية “الهن” التي تشكل 92% من الصينيين في البر الصيني، و97% من سكان منطقة تايوان، أي أن تايوان، من الناحية القومية، أكثر صينيةً من البر الصيني ذاته.

لذلك، تشكل الموافقة على استقلال تايوان سابقةً خطرةً لتفكيك الصين ذاتها، من التيبت إلى جينغيانغ إلى غيرها، فمبدأ “صين واحدة” ليس تغولاً من الصين على جزيرة صغيرة مجاورة تبلغ مساحتها نحو 36 ألف كم2 فحسب، فيما مساحة الصين أكثر من 9.6 مليون كم2، ويبلغ عدد سكان الجزيرة 23 مليون نسمة، فيما عدد سكان البر الصيني أكثر من 1.4 مليار مواطن.

إنَّ الموقف الحازم، في مواجهة مشروع “استقلال تايوان”، هو دفاعٌ عن وحدة الصين وسلامة أراضيها، أي أنه استراتيجية دفاعية صينية في مواجهة مشروع تفكيك الصين. أين سيقف مشروع التفكيك بعدها، يا ترى، لو بدأ بما هو صيني صميم قومياً؟ عند الفوالق الطائفية أو العرقية أو الجهوية في المجتمع الصيني أو أين؟ وكيف ستتشظى الصين بعدها؟ ومن المستفيد من مشروع تفكيكها؟ تلك أسئلة لا يجوز القفز عنها عند مناقشة مسألة تايوان، وهي أسئلة تتعدى الصين جغرافياً وسياسياً في أهميتها وانعكاساتها.
في مسألة الهُوية والأيديولوجيا الليبرالية

تلعب الإمبريالية ورقة “حق تقرير المصير” لسكان تايوان لتبرير انفصالها عن الصين، ولتأسيس سابقة كبرى لتفكيك الصين ذاتها، وتلعب الإمبريالية ورقة “حق تقرير المصير” في كل بلد تسعى إلى تفكيكه، أو إلى شطب هُويته الغالبة وتحويله إلى دولة فاشلة “متعدّدة الأعراق والثقافات والهويات”.

والرجاء من القارئ الكريم هنا أن يسمح لنا بملاحظة أيديولوجية، مع أنَّ التجربة أثبتت أن أكثر الناس ادعاءً بالابتعاد عن الأيديولوجيا هم أكثرهم ليبراليةً، أي أكثرهم تمثيلاً لطغيان نوعٍ مقنعٍ من الأيديولوجيا هو الأيديولوجيا الليبرالية المعولمة، بذريعة “مناهضة تحيّز الأيديولوجيا”.

ثمة خطابان فيما يتعلق بمبدأ حق تقرير المصير: الخطاب الأول يرى أن أي جماعة من الناس على أي بقعة جغرافية يحق لهم أن ينادوا بالانفصال سياسياً وقانونياً. ذلك هو الخطاب الليبرالي المعولم الذي يؤسس للتفكيك، وهو يربط حق تقرير المصير بالبقعة الجغرافية فحسب، بصرف النظر عن أي رابط حضاري أو قومي، إذ إنَّ مرجعيته هي الرغبة السياسية للأفراد في بقعة جغرافية ما، الذين حدث أنهم وُجدوا عليها أو غزوها أو احتلوها أو هاجروا إليها.

أما الخطاب الآخر، فيرى أن حق تقرير المصير هو حق قومي للأمم، أي أنه مشروطٌ بوجود رابطٍ قومي أولاً، وبوجود صلة تاريخية بين تلك الجماعة القومية والأرض التي يعيشون عليها ثانياً، وبألا يخدم انفصال تلك الجماعة القومية عند إعلان “الاستقلال” المنشود مصلحة الإمبريالية العالمية ثالثاً.

الفارق بين الخطابين كبيرٌ جداً وجذريٌ. وللأسف، هناك من يسعى إلى خلط الأوراق، وإلى تسويق خطاب الانفصال الذي يخدم الإمبريالية برداء خطاب “حق الأمم في تقرير مصيرها”.

ينعكس الفارق مباشرةً على بلادنا بالمناسبة، فمن يتجرد من الانتماء القومي والحضاري، ومن يحتكم، عوضاً عن ذلك، إلى مرجعية “مجموعة أفراد حدث أنهم وجدوا على بقعة جغرافية ما”، يجد من السهولة بمكان أن يتحدث عن “إسرائيل واحدة، عربية-يهودية، لمواطنيها كافةً”، بدلاً عن الحديث عن عروبة فلسطين، كملكية عامة للأمة العربية، بأجيالها السابقة والحالية وتلك التي لم تولد بعد. أما التخلي عن مرجعية عروبة فلسطين، فيدخلنا في كل أنواع الهرطقات التسووية التي يمكن أو لا يمكن تخيلها.

من يستند إلى الرابط القومي والحضاري، أي إلى الرابط الجمعي، من البديهي ألا يجد غضاضةً مثلاً في أن تدخل روسيا إلى أوكرانيا، وأن تضمّها كاملة، استناداً إلى الرابط القومي السلافي، وفي أن تستعيد الصين السيطرة على تايوان بكل الوسائل المتاحة، استناداً إلى الرابط القومي الصيني، وإلى كون منطقة تايوان جزءاً من الوطن الصيني تاريخياً. ذلك هو المعنى القومي لحق تقرير المصير، بصرف النظر عن وجهة نظر بضعة أفراد طارئين أو مضللين هنا أو هناك.

أما من يستند إلى مرجعية حقوق الأفراد في بقعة جغرافية ما، وإلى غالبيتهم الانتخابية، فإنَّ حساسيته الليبرالية المرهفة سوف تعتمل طبعاً إزاء مثل هذا الخطاب (التعسفي؟). وما دامت مرجعيته هي “الفرد المطلق”، في المكان والزمان الملموسين، فإنَّ “أناه الكبرى” لن تجد مشكلةً كبرى في التعاون مع الإمبريالية العالمية أو في العمالة، لأنَّ مفهوم الوطن أو الأمة هو مفهوم ثانوي أو “تافه” بالنسبة إليه مقارنةً برغبة الفرد المجرد.

ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أنَّ الهجوم على الليبرالية، من منظور الجماعة القومية الراسخة في تاريخها وأرضها، لا يعني أبداً رفض حقوق الأفراد وتميّزهم وحرياتهم وخصوصياتهم وما شابه، إنما يعني أنَّ الأولوية هي لحقّ الجماعة، وإلا فإن المرء سيجنح بسهولة إلى تبني حقوقٍ فردية تهدد الجماعة، مثل “حقوق” تداول المخدرات، أو تعليم المثلية للأطفال، مثل شركة “ديزني”، أو التعامل مع التطبيع كـ”وجهة نظر”، وإلى ما هنالك مما يروجه الغرب كحقوق إنسان، ومنه حق انفصال تايوان أو أي جزء من أي قطر عربي عنه.
مسألة الهوية التايوانية

كان اللافت، خلال إعداد هذه المادة، هو حجم الاهتمام الغربي بـ”السكان الأصليين” لتايوان، أي الـ2 أو الـ3% من السكان التي لا تنتمي إلى قومية “الهن”، العمود الفقري للأمة الصينية. وقد “أعيد اكتشاف” تلك الأقليات حديثاً، قبل عقدين فحسب، وجرى التركيز البحثي عليها من أجل إعادة إنتاج هوية تايوانية مستقلة عن الصين ثقافياً وحضارياً، فالبحث العلمي في الغرب ومن ينفق عليه ليس منزّهاً عن الأجندات السياسية.

يكاد يقود البحث المعمق عن جذور الصراع على تايوان وهويتها تلقائياً إلى تاريخ استشراقي مستقل لتايوان عن الصين، فالمصادر الغربية تقول إنَّ سكان تايوان الأصليين هم من العائلة الأسترونيزية (Austronesian peoples) التي انداحت عبر البحر لتعمّر إندونيسيا وماليزيا والفلبين، ولتؤسس أقليات عريقة في جنوب شرق آسيا في فيتنام وكمبوديا وميانمار وتايلاند، وصولاً إلى جزر القمر غرباً، وشرقاً إلى مجموعات جزر ميكرونيزيا وميلانيزيا وبولينيزيا، وذلك كله انطلق من جزيرة فرموزا ومنطقة تايوان عموماً.

تقول بقية الرواية إنَّ الصينيين من “الهن” بدأوا استيطان جزيرة فرموزا في القرن السابع عشر فحسب، في خضم فترةٍ قصيرةٍ من الاستعمار الهولندي دامت عقدين ونيفاً، وأن الجزيرة انتقلت بعدها إلى الحكم الصيني الذي استمر عقوداً، ومعه موجات من الاستيطان الصيني، حتى عام 1895، عندما انتقلت الجزيرة وأخواتها إلى الحكم الياباني.

الحبكة الغربية هي أن هُوية الجزيرة نشأت من تفاعل السكان الأصليين مع موجات المهاجرين الصينيين، فلم تعد صينية تماماً، ولم تبقَ أصيلة. من هنا نشأت “هوية تايوانية مستقلة”!

بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية عام 1945، انتقلت تايوان إلى حكم الحزب القومي الصيني، الكومينتانغ، بالنيابة عن الحلفاء. وقد اتبع الكومينتانغ، لا سيما منذ إعلان “جمهورية الصين” على الجزيرة، بعد هزيمته في الحرب الأهلية الصينية عام 1949، سياسة تمثيل كل الصين، بما فيها البر الصيني، حتى بعد عام 1971، عندما فقدت تايوان تمثيل الصين في الأمم المتحدة لمصلحة جمهورية الصين الشعبية بموجب القرار 2758.

اتبع الكومينتانغ داخلياً سياسة صينية تعد الأقليات العرقية جزءاً من القومية الصينية ذات جذور من “الهن”. ويشار إلى أنَّ الرواية الغربية هي الغالبة هنا، إذ إنَّ مقولة انتماء الأقليات العرقية في تايوان إلى أصلٍ صيني لا تجد أي سندٍ لها في المراجع الغربية، وهو ما لا يقلّل منها، إنما يطرح المزيد من الشك في الرواية الاستشراقية الغربية التي سعت لاختراع تاريخٍ أنثروبولوجي منفصل لتايوان عن البر الصيني، وكم هو ملائمٌ مثل هذا الخط الاستشراقي في الصراع الجغرافي-السياسي القائم حالياً!

قضيت ساعاتٍ طويلة في التقصي عن هُوية الأقليات العرقية في تايوان، ولأنني لا أعرف الصينية بتاتاً، كنت مضطراً إلى العودة إلى المراجع الغربية فحسب، على الرغم من شكوكي، فقصة اختراع تاريخ منفصل لتايوان عن الصين لا تختلف كثيراً عن محاولة المستشرقين اختراع تاريخ مختلف عن العروبة لأقطار بلاد الشام والعراق ووادي النيل والمغرب العربي، وعن محاولة الغرب وأذنابه تصوير العروبة خارج الجزيرة العربية كـ”احتلال” جاء مع الإسلام، بزعمهم، وهو تزويرٌ ضروريٌ استشراقياً لإنتاج تاريخية التعددية العرقية والثقافية والجهوية التي تفكك مقولة الوطن العربي تحت عنوان “الشرق أوسطية”.

كما أن تأصيل رواية تاريخية أقطار التجزئة القُطرية، التي لم يلتقطها إلا واضعو الخرائط البريطانيون والفرنسيون في الوطن العربي في مستهل القرن العشرين، كما يبدو، بات نموذجاً عاماً لتفكيك الدول المستقلة ذات السيادة لمصلحة رأس المال المالي العابر للحدود.

القصة تتعلق بنا، إذاً، وبكلِّ شعوب الأرض، وبمشروع التفكيك الليبرالي المعولم، وباختراق الهوية، بمقدار ما تتعلق بالصين.
صورة الصّراع السياسي في تايوان اليوم

حكم الكومينتانغ تايوان بقبضة من حديد على مدى 4 عقود، مارسوا خلالها حملة عرفت باسم “الإرهاب الأبيض” اختفى فيها عشرات الآلاف أو قتلوا، ولكنهم حظوا، على الرغم من ذلك، بدعمٍ وافرٍ من الغرب عموماً، ومن الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً.

وكان نموذج “النمور الأربعة”، المتكون من تايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية، ضرورةً أيديولوجيةً قصوى ضخت فيها الإمبريالية رؤوس الأموال والتكنولوجيا بكثافة في الستينيات لإثبات تفوق النموذج الرأسمالي على النموذج الاشتراكي في جنوب شرق آسيا، لا سيما خلال حرب فيتنام، وكلها عبارة عن مدنٍ أو مناطق صغيرة جداً ومعزولة ما كان من الممكن لها أن تنهض، بمواردها الذاتية، لولا القرار الغربي، ما عدا كوريا الجنوبية طبعاً، التي بلغ رأس المال الأجنبي 80% من استثماراتها الصناعية في الستينيات.

أما من حيث قلة المساحة وعدد السكان والموارد، فلا سنغافورة ولا هونغ كونغ ولا تايوان، وكلها ذات غالبية صينية ساحقة، كان يمكن أن تنهض من تلقاء ذاتها، إنما كانت العين الغربية على الشعب الصيني أيديولوجياً، و”الهن” أكبر مجموعة عرقية في العالم بالمناسبة، ولا مصداقية لنهوضٍ عفويٍ للسوق الحرة في الجغرافيا السياسية، والأمثلة التاريخية كثيرة.

العبرة أن حزب الكومينتانغ يتبنى مبدأ “صين واحدة” أيضاً، وأنه رفض تاريخياً مبدأ استقلال تايوان بعيداً عن الصين، التي تعامل معها كحقٍ له، كما تتعامل الصين مع تايوان كحقٍ لها.

وإذا كان مطلوباً خلال الحرب الباردة تعزيز النظام التايواني بالقبضة الحديدية، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، والتحولات التي حدثت في الصين ذاتها، جعلت الإمبريالية ترى، عشية ذلك الانهيار، أن الوقت حان لتغيير الحرس في تايوان.

في التسعينيات، جرى الانتقال في تايوان إلى “نظام تعددي ديمقراطي”. وكان من نتائج ذلك ظهور حزب اسمه “الحزب الديمقراطي التقدمي”، يؤمن بإعلان استقلال تايوان، وبهوية تايوانية ثقافية مستقلة غير صينية، وبتعزيز العلاقة مع الغرب، وبحقوق المثليين، ومنها الزواج المثلي… (بالإمكان التأكد من المراجع الغربية من هذا الأمر).

وصل “الديمقراطي التقدمي” إلى الحكم في تايوان عام 2000. وبصفته حزب معارضة، قام الكومينتانغ بسلسلة زيارات ولقاءات مع البر الصيني منذ عام 2005. ومنذ عام 2008 حتى عام 2016، عاد الكومينتانغ إلى الحكم، فتحسنت العلاقات بين تايوان والصين. ومنذ عام 2016 حتى اليوم، عاد “الديمقراطي التقدمي” المزعوم إلى الحكم، فتدهورت العلاقات الصينية-التايوانية، وهذا يشكل إحدى أهم خلفيات الصراع في تايوان وعليها اليوم.

زيارة نانسي بيلوسي المزمعة إذاً ليست سوى سببٍ مباشرٍ للصراع. ففي عام 2018، في ظل سيطرة الانفصاليين في تايوان، مرر الكونغرس الأميركي قراراً وقعه دونالد ترامب بسرور، هو قرار “Taiwan Travel Act”، الذي ينص على السماح للمسؤولين الأميركيين بزيارة تايوان، وعلى السماح للمسؤولين التايوانيين بزيارة الولايات المتحدة، وعلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الولايات المتحدة وتايوان، وهو ما عدته الصين انتهاكاً خطراً لقانون أميركي آخر، هو قانون “Taiwan Relations Act” لعام 1979، الذي اعترفت فيه الولايات المتحدة بمبدأ “صين واحدة” تمثلها جمهورية الصين الشعبية. ويعدّ تثبيت “الحق الأميركي” في ممارسة قانون عام 2018 الخلفية المباشرة لزيارة نانسي بيلوسي.

لا تلعب الصين طبعاً! وبعيد وصول الانفصاليين إلى الحكم في تايوان، سنّ مجلس الشعب القومي في الصين (مجلس النواب أو البرلمان) قانوناً عام 2005، وقعه الرئيس الصيني الأسبق هو جن تاو، يؤكد تعزيز العلاقات عبر مضيق تايوان، وأن الصين لن تتردد في استخدام الوسائل غير السلمية إذا أعلنت تايوان استقلالها.

من الواضح أن الصين جادة تماماً، فالعلاقات عبر مضيق تايوان تعززت بشدة، لا سيما الاقتصادية منها، ولكن ذلك لا يغطي على أولوية الأمن القومي، على عكس ما يزعم الليبراليون، فالصين تنصب الصواريخ والقواعد في مقابل تايوان وتهدد.

وفي الآن عينه، مثلت صادرات تايوان إلى البر الصيني أكثر من 42% من مجموع صادراتها عام 2021، بقيمة تقارب 126 مليار دولار، وظلت الصين أكبر سوق للمنتجات التايوانية، بالرغم من كل جهود “الديمقراطي التقدمي” في توجيه الصادرات بعيداً عن الصين، فالصادرات إلى الولايات المتحدة لم تكد تبلغ 15% من مجموع الصادرات التايوانية عام 2021، وظلت الصين المصدر الأكبر للواردات التايوانية بقيمة تقارب 83 مليار دولار عام 2021.

الصين، إذاً، هي أكبر شريك تجاري لتايوان، بالرغم من أنف الانفصاليين، والتايوانيون يستثمرون بكثافة في الصين، وتُقدّر استثماراتهم في البر الصيني، حتى عام 2020، بـ200 مليار دولار، وتشير الإحصاءات إلى أنها ما برحت في تصاعدٍ مستمر.

تلعب الصين إذاً على ضفتي معادلة الاقتصاد والأمن القومي، وهي تقدم عرض “صين واحدة، ونظامين مختلفين” لتايوان، كما قدمته من قبلُ وصدقت لهونغ كونغ التي استعادتها من بريطانيا عام 1997، والتي فقدتها بعد حرب الأفيون الأولى عام 1841، وكما قدمته لماكاو التي استعادتها من البرتغال عام 1999، والتي فقدتها الصين رسمياً عام 1887، وكان البرتغاليون قد وضعوا قدمهم فيها عام 1557، وهو درسٌ لمن يظنون أن الاحتلال يستقر بتقادم الزمن.

أخيراً، يشار إلى أنّ الأقليات الأصلية في الصين تصوت منهجياً مع الكومينتانغ ضد “الديمقراطي التقدمي”، بالرغم من تبنيه خطاب “حقوق الأقليات”. وفي ذلك حبكةٌ طريفة، فأغلبية الصينيين في تايوان من مجموعة “الهوكلو” (Hoklo)، وهم الذين خاض الأصليون معهم صراعات عرقية تاريخية، فيما يصوت أغلبية الصينيين من خارج الهوكلو، من الناطقين بلهجة الـهاكا (Hakka) أو المندرين (الأقرب إلى الفصحى الصينية)، مع الكومينتانغ. وتشعر الأقليات العرقية التايوانية بأن الحديث عن هُوية تايوانية مستقلة يعني سيطرة الهوكلو على البلاد، على حسابهم، وأن مصلحتهم السياسية، بالتالي، تكمن مع الصينيين الآخرين.

أمام مثل هذا الواقع المحرج، نشر معهد “بروكينغز” الأميركي المعروف تقريراً في 7/2/2022، بناءً على استطلاع رأي يؤكد فيه أن المشكلة بين تايوان والصين ليست ثقافية، وليست مشكلة تضارب هُويات، بل مشكلة “موقف التايوانيين من النظام السياسي في جمهورية الصين الشعبية”. أهلاً وسهلاً! اسألوا المستثمرين التايوانيين في الصين…

هل يشتعل مضيق تايوان؟ اسألوا الغرب، لأن إعلان استقلال تايوان أو التعامل معها كدولة مستقلة، لا بد له من أن يشعل الصراع بالضرورة.

الميادين

Views: 0

ADVERTISEMENT

ذات صلة ، مقالات

التالي