لم يُخطئ البنك الدولي بوصفه الأزمة في لبنان ثالث أسوأ أزمة عالمية منذ مئة وخمسين عامًا. التردّي السريع في الواقع الإقتصادي والإجتماعي أعاد لبنان إلى مصافي الدول الأكثر فقرًا في ظل عجز هائل للسلطة على إتخاذ الإجراءات اللازمة والناتج – أي عجز السلطة – عن الصراع المستميت على السلطة بين القوى السياسية الأساسية في لبنان.
الهيكلية الاجتماعية تفكّكت نتيجة ارتفاع الأسعار! وعدم قدرة العائلات على تأمين الأكل والطبابة والتعليم – وهي مكونات أساسية في تصنيف المجتمعات في العالم – جعلت هذه العائلات تنزح من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الفقيرة. وكان تقرير لمنظمة الإسكوا قد أشار إلى أن 40% من العائلات اللبنانية تعيش في فقر مُدقع أي أن الفرد من هذه العائلات يعيش بأقلّ من 2.15 دولار أميركي في النهار أو ما يوازي 86 ألف ليرة على سعر دولار السوق السوداء. ولمعرفة مدى فظاعة هذا الرقم، فإن سعر سندويش الطاووق يفوق الـ 100 ألف ليرة لبنانية أي أن مدخول الفرد لا يؤمّن له سندويشا واحدا. من هنا بدأت العائلات والأفراد بالتوفير من باب النوعية والكمية والطرق على أبواب الجمعيات لدعمها غذائيًا. هذا الأمر واقع ومُثبّت حيث أن إحدى الجمعيات تؤمّن شهريًا ما يُقارب العشرة ألاف صندوق غذائي يحوي على أرز وزيت وسكر وغيرها من المكونات الأساسية التي تحوي على سُعيرات حرارية! إنه الوضع الحالي في لبنان والذي كان منذ ثلاثة أعوام يعيش على مستوى الدول المتقدّمة وكان تصنيفه بين الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى!
نعم إستطاعت الأزمة ضرب هيكلية لبنان الاجتماعية وأصبح أكثر من 80% من سكانه يعيشون في فقرٍ مُتعدّد الأبعاد أي لا يستطيعون إكفاء أنفسهم غذائيًا وصحيًا وتربويًا! أي أن الطبقة المتوسّطة تلقّت ضربة كبيرة أدّت إلى نزوح قاطنيها إلى الطبقة الفقيرة. في المقابل هناك ما يوازي الخمسة إلى عشرة بالمئة من الشعب اللبناني مكونة بالدرجة الأولى من التجار والصيارفة، إنتقلوا من الطبقة المتوسطة إلى مصافي أسفل الطبقة الغنية وهذا ما يظهر جليًا من نمط معيشتهم.
دخلت السياسة إلى المصرف المركزي، وأطاحت بالإستقرار النقدي الذي كان صمّام الأمان للشعب اللبناني. ولو كان لدى الحكومات المتعاقبة القليل من الاهتمام بالشعب، لحافظت على هذا الاستقرار ومنعت التهريب والإفراط في الإستيراد والفساد في إدارة المال العام ولكان لبنان ومواطنيه أُعفوا من هذا الكأس المرّ الذي يشربونه اليوم.
غياب السياسات المالية للحكومات، أعطى مساحة أوسع للسياسة النقدية في الاقتصاد اللبناني وهو ما سمح بتأمين إستقرار على مدى عقود. لكن ومع بدء الأزمة، قضت السياسة على الاستقرار النقدي وأصبحت الدولة اللبنانية من دون سياسة مالية ومن دون سياسة نقدية! فالمصرف المركزي محروم من الأداة الأساسية التي يمتلكها لمحاربة التضخّم والتي تتطلّب قطاعا مصرفيا لم يعد إلا صندوقا يسحب منه المودعون أموالًا بعد الإقتطاع منها. في كل دول العالم بدءًا من الولايات المُتحدة الأميركية وصولًا إلى أوروبا ومرورًا ببريطانيا وغيرها، تعمد المصارف المركزية إلى رفع الفائدة لإمتصاص التضخّم. أمّا في لبنان، فقد كانت المزايدات عن أسعار الفائدة العالية تضرب أطنابها، ولم يعلم المنادون بخفض الفائدة أنذاك أن الفائدة هي التي كانت تلجم التضخّم. بالطبع هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن الوضع قبل الأزمة كان سليمًا! أبعد من ذلك، لبنان مرّ بمرحلة تعثّر وعدم ملاءة بالعملة الصعبة في العام 2015 مع تسجيل ميزان المدفوعات عجزًا بقيمة 3.35 مليار دولار أميركي أنذاك ويُسجّل عجزًا في موازناته منذ إنتهاء الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي. لكن للأسف لم يتمّ إتخاذ أية إجراءات تصحيحية.
بدون إستقرار بسعر الصرف، فإن الأسعار ستستمر بالإرتفاع على حساب المواطنين وسيزداد الفقر ولن يكون هناك من إقتصاد فعلي بإستثناء بعض التجار الذي يستفيدون من الأزمة عبر ممارسات غير قانونية والتعامل بالكاش الذي يعفيهم من الضرائب. أضف إلى ذلك أن عدم قدرة المصرف المركزي على إستخدام أداة الفائدة لمحاربة التضخم، يجعل الحكومة عارية أمام ظاهرة التضخم الذي من المتوقّع أن يستمر بوتيرة عالية في المرحلة المقبلة خصوصًا مع الإجراءات المالية التي وضعتها الحكومة في الموازنة العامة للعام 2022 والإجراءات المواكبة.
فرفع الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة إلى خمسة عشر ألف ليرة سيرفع الأسعار حكمًا على كل السلع من دون إستثناء بما في ذلك السلع المعفاة من الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية. ويعود السبب إلى أن هناك رسومًا إدارية تستوفيها الدولة وهي تعادل الرسوم الجمركية ولا يوجد أي نص قانوني يعفي سلع أو بضائع من هذه الرسوم. أيضًا وبحسب معلوماتنا، فإن الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة سيتم إستيفاؤهما على سعر السوق السوداء وليس على سعر الخمسة عشر ألف ليرة كما هو مصرّح عنه. ويعود مردّ هذا الأمر إلى أنه عمليًا يقوم التجار بقبض هذه الضرائب والرسوم السيادية من المواطنين على سعر السوق السوداء وبالتالي فإن الإدارة الضريبية ستستوفيها على سعر السوق السوداء حتى ولو كان الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة على سعر الخمسة عشر ألف ليرة.
عمليًا ارتفاع الأسعار لا يعود مردّه فقط إلى ارتفاع الضرائب والرسوم، بل أيضًا إلى الزيادات المفروضة في الموازنة والتي تطال العديد من السلع والبضائع. فمثلًأ هناك رسم 10% إضافي ورسم أخر 3% على المستوردة الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة، وهناك أيضًا رفع تعرفة الكهرباء… كل هذا سيؤدّي حكمًا إلى ارتفاع الأسعار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث عمدت الحكومة إلى إقرار أجرين إضافيين للقطاع العام (وهي زيادة غير كافية!) من دون أن يكون هناك من تمويل فعلي لها. ويقول البعض أن هذا غير صحيح نظرًا إلى أن رفع الدولار الجمركي ودولار الضريبة على القيمة المضافة يهدف إلى تمويل هذه الزيادة، إلا أن المعارضة من قبل بعض القوى السياسية لهذه الزيادة يمنع تطبيقها حتى الساعة وبالتالي فإن المصرف المركزي سيقوم بطبع العملة على أساس 3 تريليون ليرة لبنانية شهريًا لتمويل هذه الزيادة مما يعني مزيدًا من التضخم.
أضف إلى ذلك، فإن عدم قبول التجار الدفع بالبطاقات المصرفية، يدفع المواطنين إلى دفع الزيادة في الأسعار نقدًا بالليرة، وهو أمر يؤدّي حكمًا إلى رفع الكتلة النقدية بالتداول وبالتالي يخلق تضخّمًا إضافيًا ويزعزع الليرة أمام الدولار الأميركي. كل هذا لأن الحكومة لا تستطيع أخذ قرار يفرض على التجار قبول البطاقات المصرفية.
وكأن هذا لا يكفي، يأتي التهريب ليقضي على ما تبقى من دولارات في السوق مع تقديرات بأن حجم هذا التهريب يفوق الخمسين بالمئة من حجم الإستيراد. فالتاجر يقبض من المواطن اللبناني ثمن السلع والبضائع بالليرة اللبنانية ليقوم بعدها بالذهاب إلى منصة صيرفة أو السوق السوداء ويحول هذه الليرات إلى دولارات يستورد فيها سلعا وبضائع للتهريب! أيضًا يقوم التاجر وبحجة الإستيراد بإرسال أموال نقدية عبر المصارف وشركات التحويل بهدف الإستيراد، ولكن لا أحد يُدقّق إذا ما كان هذا التاجر قد إستورد بكل المبلغ الذي حوّله إلى الخارج.
عمليًا الصراع على قانون الكابيتال كونترول في اللجان المشتركة، هو في غير مكانه. فهذا القانون يجب أن يكون ضمن سلة من القوانين وعلى رأسها خطّة التعافي لأن قانون كابيتال كونترول من دون وقف التهريب، لن يؤدّي إلى أي فائدة فعلّية. وبما أن، لا توافق حتى الساعة على خطة التعافي، فإن الوضع سيستمر بالتردّي وستتراشق القوى السياسية التهم بتعطيل الكابيتال كونترول في حين أن بيت القصيد هو إقرار خطة تعافي ومعها القوانين المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي في أسرع وقت حتى ولو لم يكن هناك من إتفاق مع صندوق النقد (مثلًا حكومة تصريف أعمال).
إن التأخير في إجراء الإصلاحات سيزيد من التضخّم والفقر وسيزيد من الجريمة. من هذا المنطلق يجب – فورًا ومن دون تأخير ورأفة بالشعب – إقرار سلة القوانين المطلوبة وعلى رأسها إعادة هيكلة المصارف وخطّة التعافي وإستقلالية القضاء بمعزل عن الحسابات السياسية وبمعزل عن الصراع على السلطة، وذلك بهدف منع الوقوع في المحظور
Views: 3