يتساءل الكثيرون عن وقع وتداعيات الاتفاق السعودي – الإيراني على المنطقة،والتغيّرات الجيوسياسية التي قد تحصل، خصوصًا أن لهاتين الدولتين وزنا جيوسياسيا كبيرا في المنطقة، ظهر جليًا منذ بدء الحرب العراقية – الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي.
تاريخ العلاقات السعودية – الإيرانية المشحون بالتوترات على مدى عقود،إنتهى بالمبدأ يوم الجمعة الماضي،مع الإعلان عن استئناف العلاقات الديبلوماسية الثنائية بين البلدين، واضعًا بذلك نهاية لسبع سنوات من القطيعة الديبلوماسية.
وإذا كانت المحادثات السعودية – الإيرانية بحد ذاتها لم تُشكّل مفاجئة لأحد،خصوصًا مع الوساطات العُمانية والعراقية،إلا أن المفاجأة أتت بالرعاية الصينية لهذا الاتفاق،وهو ما جعل الصين تُسجّل نقاطا عديدة في مرمى الديبلوماسية الأميركية،وتفتح في نفس الوقت صراع نفوذ إقتصادي جديد في منطقة الشرق الأوسط، حيث لن يسلم لبنان من شظايا هذا الصراع.
المقال هو مقال إقتصادي، وبالتالي لن ندخل في التداعيات السياسية لهذا الاتفاق السعودي – الإيراني،إلا أننا سنستند على بعض الحجج السياسية للإظهار خفايا الصراع الجديد على النفوذ الاقتصادي في المنطقة.
من المعروف أن العلاقات الأميركية – الصينية هي في أسوأ أحوالها،حيث تخشى الولايات المُتحدة الأميركية أن تعمد الصين إلى مد روسيا بالأسلحة ودعمها إقتصاديًا لكسر طوق العقوبات الأميركية عليها.أضف إلى ذلك الصراع المفتوح والمُعلن بين بكين وواشنطن بشأن جزيرة تايوان،والتي تعتبرها الصين جزءًا لا يتجزأ منها.
وزاد التوتر في الأسابيع الأخيرة على خلفية منطاد التجسس الصيني،والذي أسقطته طائرات أميركية فوق أراضيها، مما دفع وزير خارجة الولايات المُتحدة الأميركية إلى إلغاء زيارة كان مُقرّرة لبكين للبحث في تحسين العلاقات الثنائية.
ولم تتوقّف الأمور عند هذا الحد، فقد صعّدت واشنطن من إجراءاتها ضد الصين مع تشكيل لجنة خاصة في الكونغرس الأميركي لبحث التهديدات الصينية.كما عمدت الإدارة الأميركية إلى توقيع إتفاقيات أمنية مع جيران الصين (الفليبين واليابان وأوستراليا).وكل هذا بالتوازي مع تشديد التضييق على مرور التكنولوجيا الغربية عامة والأميركية خاصة إلى الصين.
وبما أن الحرب يُمكن أن تُترجم صراعات على كل الأصعدة،وافق الكونغرس الأميركي على طلب نشر تقارير سرّية عن مصدر فيروس كورونا الذي هز العالم في العام 2020.هذا الطلب أتى على خلفية تقارير أميركية أشارت إلى أن مصدر الفيروس هو مصانع صينية.
الصين من جهتها، بدأت تُحارب الولايات المتحدة الأميركية من خلال إستخدام إستراتيجية هذه الأخيرة، وبالتحديد توسيع نطاق تحالفاتها العالمية، خصوصًا في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية مثل الشرق الأوسط.وبالتالي أتى النفور الأميركي مع كلٍ من السعودية وإيران، ليُشكّل هامش تحرّك واسعا للصين لإنجاح المحادثات برعاية صينية تُكسبها مصداقية على الساحة الدولية.
إلا أن إستراتيجية الصين الأساسية عادت لتظهر من جديد وبقوة.هذا الإستراتيجية تعتمد على الترابط الإقتصادي القوي مع الدول الأخرى، مُتسلّحة بقدرة إستثمارية كبيرة وبعدد من التقنيات التي تُسيطر عليها بالكامل.هذه الإستراتيجية دفعت بالعديد من المحللين الغربيين إلى وصفها بشكل من أشكال الاستعمار، خصوصًا في القارة الإفريقية التي ترزح تحت الديون الصينية.
الجديد في الاتفاق السعودي – الإيراني الأخير،هو تسهيل دخول الصين إلى الشرق الأوسط من بوابةهذا الاتفاق. فالقمة الصينية – السعودية الأخيرة،حيث تمّ التوقيع على اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة. هذه الزيارة التي تمّ إعتبارها ضربة كبيرة لإدارة الرئيس بايدن، سهّلت الطريق على الصينين من باب لقاء القمة الصيني، الذي جمع كل الدول العربية،وهو ما يعني انفتاحا عربيا ليس فقط على إستهلاك المنتجات الصينية، بل أيضًا على إستثمارات صينية قادمةلا محالة.وهنا يُطرح السؤال عن لبنان وخياراته الإقتصادية؟
حتى الساعة يعيش لبنان في متاهات السياسية الضيقة والصراعات على جنس الملائكة، تاركًا كل الفرص للخروج من أزمته.وإذا كان الحديث اليوم عن الغلبة لفريق سياسي على آخر،اوالعكس في الملف الرئاسي،إلا أن السؤال الأهم يبقى حول التوجّه الإقتصادي في ظل التحوّلات الإقليمية – الدولية.
على هذا الصعيد، يتوجّب استذكار دعوات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن التوجّه شرقًا،والتي تشمل الصين وإيران.فهل يُمهّد الاتفاق السعودي – الصيني – الإيراني لهذا التوجّه؟
من الأكيد ،أن الأطراف السياسية اللبنانية ستُسخّر الموضوع بما يتناسب وحساباتها الضيّقة والآنية، إلا أن ما يجب معرفته أن الولايات المُتحدة الأميركية لم تقل كلمتها الأخيرة في هذا الملف. وإذا كان السرد الذي قمّنا به في هذا المقال يأخذ القارئ في إتجاه التوجّه شرقًا، إلا أن الصراع الإقتصادي الصيني – الأميركي أكبر بكثير من لبنان ، ومن قرارات يُمكن أخذها لبنانيًا.
لذا من المتوقّع أن يأخذ المنحى الإقتصادي تعقيدات أكبر، خصوصًا على صعيد التأخير في القيام بإصلاحات إقتصادية تتماشى ومطالب صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني تأخر الإستثمارات الدولية التي تُطالب بكل جدّية بإصلاحات لمحاربة الفساد – بغض النظر عن المواقف السياسية.
من هذا المُنطلق، نرى أن الحلّ السياسي والحلّحلة على صعيد ملف الرئاسة الأولى، تبقى الإصلاحات ومعها الاتفاق مع صندوق النقد الدولي رهينة المُعطيات الدولية والإقليمية. وبالتحديد، يتوجّب متابعة ردّة فعل الولايات المُتحدّة الأميركية التي لن تُخلي الساحة للنفوذ الصيني، أقلّه لإعتبارات إستراتيجية وجيوسياسية.
Views: 4