وتقليص اعتِماده على الدولار؟ وهل “هَمَسَ” بأُذنه الرئيس الصيني الذي التقاه في بكين بأسرارٍ خطيرةٍ عن قُرب حرب تايوان؟ ولماذا كان ترامب أكثر مُهاجميه شراسةً؟
تتواصل الهجمات والانتقادات على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكيّة بعد تصريحاته “الصّادمة” التي أدلى بها أثناء، وبعد، زيارته للصين ولقائه مع رئيسها تشي جين بينغ الأُسبوع الماضي، ولكنّه في تقديرنا قال الحقيقة، ولم يُخطئ مُطلقًا، وكان ينظر إلى التطوّرات العالميّة، والحرب الأوكرانيّة خاصّةً، بنظرةٍ مسؤولةٍ تُعطي الأولويّة للمصالح الأوروبيّة، وتحذير من مخاطر الانجِرار خلف طُبول الحرب في أمريكا.
ماكرون فاجَأ الكثيرين، خاصّةً في الولايات المتحدة، عندما دعا الاتّحاد الأوروبي أن لا يكون تابعًا للولايات المتحدة، وأن يُقلّل اعتماده على الدولار، رغم تنسيقه زيارته هذه مع أمريكا، ومُهاتفته لرئيسها قبل التوجّه إلى بكين.
الرئيس البولندي ماتيوش مورافينسكي اتّهم ماكرون، دون أن يُسمّيه، بِقِصَر النّظر في التّعاطي مع أزمة تايوان، وقال إن دُوَلًا أوروبيّة تتطلّع إلى بيع منتوجاتها للصين بتكلفةٍ جيوسياسيّةٍ هائلة، ما يزيد اعتمادنا على الصين دون تقليصه، أمّا دونالد ترامب فاتّهم ماكرون بالتملّق للصين عندما طالب بأن لا يكون الاتّحاد الأوروبي تابعًا لأمريكا أو الصين، ووصفه بالسّذاجة وقِصَر النظر.
ماكرون حاول أن يُدافع عن نفسه ومواقفه، ويُدخل بعض التّعديلات على تصريحاته المذكورة آنفًا عندما قال في مُؤتمر صحافي في أمستردام أمس الأربعاء “إن التحالف مع أمريكا لا يعني التبعيّة لها، ولا يعني أيضًا أنه ليس من حقّك أن يكون لك تفكيرك الخاص”، وأكّد مصدر فرنسي مسؤول “أن الرئيس الفرنسي لن يتراجع عن تصريحاته في الصين، بعدم تبعيّة أوروبا للولايات المتحدة”.
صحيح أن الرئيس ماكرون الذي تُواجه بلاده، ومُعظم دول الاتّحاد الأوروبي أزماتٍ اقتصاديّة، يتطلّع إلى زيادة حجم التبادل التجاري بين بلاده والصين الذي يصل إلى 110 مِليار دولار سنويًّا، ويُعتبر هذا الطّموح مشروعًا، فأين يكمن الخطأ خاصّةً إذا علمنا أن حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين في المُقابل في حالٍ مُستمر تجاوز 759.427 مِليار دولار.
هُناك تفسيراتٌ عدّة لهذا الانقِلاب في موقف الرئيس الفرنسي ضدّ الهيمنة والتبعيّة الأوروبيّة للحليف الأمريكي، تقول إحداها إنه ربّما سمع كلامًا في لقائه المُغلق مع الرئيس الصيني يؤكّد أن الحرب في تايوان باتت وشيكةً، وأنه لا يُريد أن تتورّط بلاده وأوروبا فيها، فيما تُؤكّد الثانية أن هزيمة أمريكا وحِلف “الناتو” في الحرب الأوكرانيّة باتت شِبه مُؤكّدة، وأن الصين اتّخذت قرارًا بدعمِ موسكو عسكريًّا فيها.
ماكرون بات يُدرك أن الولايات المتحدة تتخلّى بشَكلٍ مُتسارع عن أوروبا لمصلحة تأسيس منظومة إنكلوسكسونيّة بديلة تضمّها إلى جانب بريطانيا وأستراليا، وما زال من الصّعب عليه أن يبتلع إهانة خطْف أمريكا صفقة غوّاصات فرنسيّة لأستراليا بأكثرِ من 50 مِليار دولار.
لا نعتقد أن الرئيس الفرنسي على هذه الدّرجة من السّذاجة بحيث يتخلّى عن أمريكا ودُولارها بهذه السّهولة لولا قناعته النّاجمة عن دراساتٍ علميّةٍ دقيقةٍ تؤكّد أن الزّعامة الأمريكيّة الاقتصاديّة والعسكريّة للعالم تتراجع، وتقترب من نهايتها، وأن النظام العالمي المُتعدّد الأقطاب بزعامة الصين وروسيا باتَ وشيكًا.
فإذا كانت بعض الدول العربيّة التابعة تاريخيًّا لأمريكا مِثل السعوديّة والإمارات بدأت تتخلّى عن واشنطن وتُدير ظهرها لها، وتتّجه إلى الصين وروسيا، وتُقدّم طلبات انضِمام لمنظومتيّ “بريكس” و”شنغهاي” فلماذا لا تفعل فرنسا الشّيء نفسه، وتبتعد عن هذه القِيادة الأمريكيّة التي أغرقتها في حربِ استنزافٍ في أوكرانيا مع روسيا، وتستعدّ لتوريطها في حرب تايوان الأكثر خُطورةً مع الصين؟
نختلف كُلّيًّا مع ماكرون، وخاصّةً في بعض سياسته العُنصريّة المُعادية للإسلام، ولكنّنا نرى في مُطالبته بعدم التبعيّة لأمريكا، وتقليل الاعتِماد على الدولار الأمريكي خُطوةً تتّسم بالكثير من بُعد النّظر، والقراءة الصّحيحة للتطوّرات الدوليّة المُستقبليّة.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Views: 5