غزّة انتصرت، نعم انتصر دم الأطفال على آلة القتل دون قتال، وانتصرت دموع النّساء وصبر الرّجال.
هذا ليس شعاراً ثوريًّا ولا عزاءً عاطفيًّا، وليس دعماً معنوياً لأهل غزّة المحاصرين، فالنّاس هناك يوزّعون معنويات على ثمانية مليارات نسمة يعيشون فوق هذا الكوكب البائس.
الأطفال القتلى قاتلوا، الجرحى جاهدوا، الآباء والأمّهات الثّكلى ناضلوا، حتّى الحجر والشّجر الصّمّ هزّت بُكم العالم فغصّت عواصم القرار الدّاعم للكيان الغاصب بالمتظاهرين المتضامنين مع أهل غزّة الّذين يتعرّضون لمحرقة حقيقيّة على مرأى ومسمع العالم.
وأوضح صور الانتصار تراها في وجوه ثلاثي الخيبة والإجرام: بنيامين نتنياهو، يوآف غالانت وبيني غانيتس.
تجاعيد وجوه هؤلاء البالية، رغم مساحيق التّجميل البادية، توحي بالموت الوشيك، وتعابير الخيبة والحقد والعجز ترسم ملامح كيان أرادوا له أن يكون دولة، فإذا بالعالم، كلّ العالم، يدرك الحقيقة الّتي حاول إخفاءها: «إسرائيل كيان غير قابل للحياة».
بعد ثلاثة أسابيع على عمليّة «طوفان الاقصى» الأسطوريّة لم تحقّق «إسرائيل» نقطة واحدة في صالحها، بل كشفت كلّ عوراته على أربعة مستويات:
– عسكريًّا: لم يستطع جيش مؤلّف من 600 ألف مقاتل، مدعوم من حاملات الطّائرات والفرقاطات الغربيّة وجسر جويّ لا ينقطع من التّقدّم خطوة نوعيّة على الأرض، وحين حاول التّقدّم من ثلاثة محاور قبل يومين عاد خائبًا «بالثّلاثة»، برغم جنون القصف الجوّي الّذي مهّد للتّقدّم.
– سياسيًّا: قالت صحيفة «هآرتس» العبريّة أمس: «في خضم الحرب مع غزة.. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعلن الحرب على إسرائيل أيضاً بسبب تصريحاته» وذلك تعليقاً على كلام نتنياهو الّذي ما زال يكابر ويرفض الاعتذار والاعتراف بالتّقصير فحاول رمي التّهمة على الأجهزة الأمنية. لكنّ أعضاء مجلس حربه كانوا له بالمرصاد وأجبروه على سحب كلامه والإعتذار. وهذا التّراجع كان دونه حلّ حكومة الحرب والانتقال إلى مستوى جديد من التّفكّك الدّاخلي أثناء الحرب، وهذه سابقه لم يشهدها الكيان في تاريخه القصير.
– ديبلوماسيًّا: كانت لمواقف أمين عام الأمم المتّحدة، رغم رمزيّتها، الأثر البالغ، وكذلك تصريحات ديبلوماسيين وسفراء دوليين في الأمم المتّحدة فعلت فعلها وأظهرت بأنّ الإجرام الإسرائيلي لا يمكن تغطيته أو السّكوت عنه، وفي هذه النّقطة سجّلت القضيّة الفلسطينيّة نقلة نوعيّة يعود الفضل فيها إلى المقاومة.
– إعلاميًّا: فقدت «إسرائيل» زخم التّعاطف الّذي تلا عمليّة طوفان الأقصى، فحبل الكذب قصير والقضيّة المبنيّة على الكذب والتّزوير مصيرها الفشل مهما كانت مدعومة بالمال والإعلام. وقد أشار تقرير صحافيّ إلى أنّ الكيان خصّص سبعة مليارات دولار لتنظيم حملة إعلاميّة تقليديّة ورقميّة مستمرّة موجّهة خصوصًا إلى الرّأي العام الغربي، هذه الحملة نجحت في الأيّام الأولى، لكن حجم الفظاعات الّتي ارتكبها العدو بحقّ غزّة وأهلها وقساوة مشاهد المذبحة الحقيقيّة الطّالعة من غزّة فرضت نفسها على إعلاميين ومؤثّرين في الرّأي العام الغربي واضطرّتهم إلى رفع الصّوت وكشف الحقيقة، وما زالت تداعياتها تتفاعل يومًا بعد يوم بوتيرة أكبر وأقوى وأكثر فاعليّة.
في المحصّلة، يبدو أنّ فترة السّماح الّتي أعطتها الولايات المتّحدة لإسرائيل بدأت تنفد، فقد ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أنّ إدارة الرئيس جو بايدن غيّرت سياستها تجاه وقف إطلاق النار المؤقّت للأغراض الإنسانيّة في غزّة، وأصبحت تضغط على إسرائيل لتنفيذ وقف إطلاق نار دائم للسّماح بدخول المساعدات الإنسانيّة بشكل دوري.
وحسب الصّحيفة فإنّ التّحوّل المفاجئ في السّياسة الأميركيّة سببه الوضع الإنساني الخطير داخل قطاع غزّة، وكذلك رفض الكثير من دول العالم أن يحذو حذو الولايات المتّحدة في حجب الانتقادات العلنيّة لكيفيّة إدارة «إسرائيل» لحربها ضدّ حماس.
وفي سياق مكمل للمشهد، كتب اللّواء احتياط «عاموس ملكا» في صحيفة «إسرائيل اليوم»: «الاجتياح مهلكة وإلغاؤه هزيمة.. هكذا زجّت حماس بدولة إسرائيل في «سؤال الوجود».
اختصر «ملكا» ورطة «إسرائيل» في جملة واحدة، وقد عدّد في مقاله المعضلات المركّبة الّتي تواجه «كابينيت الحرب» والّتي تبدأ من الدّاخل المفكّك ولا تنتهي عند حدود لبنان والرّعب الكامن في الشّمال.
أمّا صحيفة «معاريف» العبريّة فقد نشرت نتائج استطلاع للرّأي يؤكّد انخفاض نسبة المؤيّدين الإسرائيليين للعمليّة البرّيّة في غزّة من 65% الأسبوع الماضي إلى 29% يوم الجمعة الماضي، وذلك كلّه بسبب فقدان ثقة الصّهاينة بجيشهم وقيادتهم السّياسيّة العسكريّة.
إلى ذلك قال مسؤول أميركي كبير، رفض الكشف عن اسمه، لقناة «ABC» الأميركيّة: واشنطن أبلغت «إسرائيل» أنّها لا تزال غير مقتنعة بأنّ لديها خطّة جيّدة لما تريد القيام به في غزّة، وحثّت نتنياهو على ضرورة التّعامل بشكل أفضل مع قضيّة الرّهائن والوضع الإنساني هناك.
هذه الوقائع تفرض نفسها شيئاً فشيئاً على «نتنياهو» الّذي بدأ يفقد الدّعم المطلق الّذي حظي به بداية الحرب ولم يستطع الإستفادة منه على مدى عشرين يوماً وأكثر، والأمور تتّجه نحو حلّ يبدأ من التّفاوض على الأسرى ويجب أن ينتهي بوقف إطلاق النّار مبدئيًّا لتبدأ الدّيبلوماسيّة الدّوليّة بوضع «حلّ الدّولتين على طاولة التّفاوض».
خواتيم هذه الحرب، رغم الحزن والألم، ستكون خيراً، ولكن، هناك قلق وحيد يحيط بالمشهد العام وهو شعور «بيبي» بأنّه سيخسر كلّ شيء وحده، وسيدفع ثمن الهزيمة وحده ليخرج بعدها من المشهد السّياسي إلى السّجن، وربّما إلى القبر ما قد يدفعه، إذا استطاع، إلى التّصرّف على أساس قاعدة «شمشون» الشّهيرة: «عليّ وعلى أعدائي» فيورّط حلفاءه الدّوليين في حرب إقليميّة يرجو أن يكون فيها خلاصه!
Views: 30