لبنى شاكر – موقع مجلة فن وناس
قريباً من الصندوق الخشبي المُصمّم لتثبيت الحذاء فوقه، حيث تصطف عبوات “البويا” و”فراشي” التنظيف وقماش التلميع، كتب ماسح أحذيةٍ عبارة على مبدأ التنزيلات والعروض المُغرية “الفردة بـ 1000 والـ3 بـ 3000″، ومع أنها تبدو مُستهجنَةً للوهلة الأولى، تحديداً في مهنة “البويجية”، التسمية المُتعارف عليها شعبياً، إلا أنها سرعان ما تُصبح مقبولةً مع توالي المُفارقات في “فردة حلم” باكورة أعمال رسام الكاريكاتير رائد خليل في الكتابة والإخراج المسرحي، على خشبة القباني مُؤخراً، حتى إن التباين يكاد يكون سمةً تُرافق العرض في مجموع لوحاته، فإلى جانب أدوات المسح يضع الرجل فانوساً في النهار، شبيهاً بما فعله “ديوجين اليوناني” قبل مئات السنين، باحثاً عن الإنسان والفضيلة.
يأخذنا العمل عبر شاشةٍ سينمائيةٍ إلى أحلام ماسح الأحذية الدارس للفلسفة “سقراطس قيقا”، تحديداً إلى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960 عندما ضرب الزعيم السوفيتي “نيكيتا خروشوف” المنبر بحذائه اعتراضاً على خطاب رئيس الوفد الفلبيني “لورينزو سومولونغ”، لِنرى قيقا يُلوح بفردة حذائه مُتأسيّاً بالحادثة الشهيرة، وهكذا تتلاحق حكايات الأحلام المُتوارية خلف واقعٍ بائس، كأنها تنتهي إلى خيالاتٍ وصورٍ بعيدة، تزور أصحابها لِتُذكرهم بما تمنوه يوماً ما، عبر حواراتٍ تجمع قيقا مع ممرضٍ لم ينجح في أن يصبح طبيباً، ومثقفٍ مُدّعٍ يحاول لفت الأنظار إليه، وشابٍ يُريد السفر، وفي التفاصيل التي يرويها كلٌ منهم، الكثير من التناقضات المُضحكة والمُبكية في آنٍ معاً.
يُقدّم خليل في “فردة حلم” مزيجاً فنياً من الشعر والغناء والكاريكاتير والفيديو، مُحوِّلاً العرض إلى توليفة جمالية، تتكئ على تجربته الطويلة في ميدان الرسوم الساخرة، حيث تُدمج الصور بالنصوص والرموز والإشارات، فيبتعد عن بدايةٍ ونهايةٍ واضحتين لأبطاله الذين يظهرون تباعاً، مُكتفياً بأحاديثهم ومواقفهم مع “البويجي” الثابت كنقطة علام للزمان والمكان، والذي يعيش مُنعطفاً كبيراً عندما يكتشف أنه كان ضحية مقلبٍ من إحدى المنصات، خطط له صديقه، كذلك يستعيد المخرج على لسان شخصياته، مقولاتٍ لفلاسفة ومُفكرين وحكماء، بما يخدم عرضه، من بينها مثلاً “أنا أفكر إذاً أنا موجوع”، “نكون أو لا نكون”، “الألقاب ليست سوى وسامٍ للحمقى، والأشخاص العظماء ليسوا بحاجة لِغير أسمائهم”.
يُؤمن خليل بأن المسرح والكاريكاتير توأمان، ولا سيما في عوالم مسرح العبث، لهذا يعد نفسه رساماً للخشبة منذ 35 عاماً، ومن ثم جسّد الصور المرسومة، بمعنى إنزالها من الورق إلى مساحة الأداء، مُشيراً في لقاءٍ مع “فن وناس” إلى إن الإشكاليات التي يطرحها العمل منذ عتبته الأولى في العنوان، مروراً بالتفاصيل والجزئيات، تُشكّل في كُليتها لوحة كاريكاتير مُتكاملة، رغم ما تشتمل عليه من لوحاتٍ منفصلة، لكنها تلتقي حول محور واحد، وعلى حد تعبيره فهو يُحاول تسليط الضوء على بعض الشخصيات التي نراها حولنا، بل إن ما يعود إليه قيقا، في كلامه عن والدته التي أرادته أن يكون طياراً، ليس إلا استحضاراً لحلم والدة خليل.
ومع ذلك، فالفكرة في العمل الفني الأدبي أو المسرحي، تعتمد برأيه على إحداث خلخلةٍ عند المتلقي وليس فقط الاهتمام بظاهرة معينة، إذ يجب التساؤل عمّا خلقته الحالة المطروحة، وهل حفّزت المتلقي نحو خطوةٍ ما؟، وهنا يُؤكد خليل أنه ليس من مهمة الفن إعادة إنتاج المرئي وإنما خلق تصورات جديدة، لذلك أتاحت بعض المَشاهد في العمل القدرة على ابتكار قصة جديدة من ثناياها، كالمُثقف الذي يسرق قصيدة زميله بعد أن وجدها في بنطالٍ استعاره منه، ونُظرائه الذي تحولوا إلى محللين، وإمكانية أن يستعيروا من بعضهم كل ما أمكن، أيضاً المارد الذي يبحث عن آخر مدعوم، يجلب له فيزا ليسافر.
في “فردة حلم” قدّم الفنان غسان الدبس شخصية ماسح الأحذية قيقا، بهيئةٍ رثّة وذهنٍ مُتقد، مُتنقلاً بخفة بين انفعالاتٍ مُتباعدة، تنتهي أخيراً بسقوطه على الخشبة ضحية كاميرا خفية مُهينة، وعلى ما يقول العمل فانتازيا كاريكاتورية مسرحية، وهو مكمن الصعوبة فيه، فهو أكثر من مسرح وبالمقابل أكثر من كاريكاتير، مُشيراً في حديثه لـ “فن وناس” إلى أن العرض الذي يُحبه الجميع فاشلٌ بالضرورة، وهو حكمٌ ينسحب على الحالة المُعاكسة، لذلك فالأحكام والآراء المختلفة حالةٌ صحيّةٌ مطلوبةٌ، وفي السياق ذاته، وَجد في إدخال أنواع من الفنون، أرضيةً للبحث والاجتهاد في إمكانية تقديم العمل في إطار الفن المسرحي الصحيح، ليكون وجبة فنية دسمة للجمهور دون أن تُتعبه، أي لعبٌ مسرحيٌّ مُبرمجٌ ومدروس.
شارك في العمل أيضاً الممثلون “طلال محفوض، مادونا حنا، كريم خربوطلي، جمال الدين زعير”.
Views: 18